لمعلمين: حق الهوية.. وجريمة الصورة النمطية

الأستاذ / المختار نافع

الأستاذ / المختار نافع

كشف احتكاكُ المجتمع الموريتاني بالمدنية الحديثة الغطاءَ عن تناقضات تركيبته الاجتماعية، والطبقية المغلقة التي تحكمها، ومنذ ذلك الوقت والصيحات المستنكرة لهذه الطبقية تتالى؛ بعضها صيحات ثقافية من مثقفين أدركوا حجم الظلم المادي والمعنوي المتولد من هذه الطبقية، والآخر نضالات حقوقية من مجموعات اكتوت بهذا الظلم.

في هذا الإطار يفهم تعالي الحديث الذي يسلط الضوء على الظلم الثقافي والمادي الذي تعانيه شريحة لمعلمين جراء الموقع الذي “جادت” لها به التراتبية الطبقية التي يقوم عليها نظامنا الاجتماعي، والتي يجزم بعض الباحثين بأنها تصنف ضمن نظام “الطبقات المغلقة” أشد أنواع الطبقية ظلما وانغلاقا.

ولهذا فإنه من الطبيعي أن يثير مثل هذا الحديث –ككل دعوة أو قضية- رد فعل من سدنة الطبقية، تشكيكا أو تلبيسا، وقد كان!! ولأن التشكيك غير مجد عادة وتأثيره قصير الأمد فإن التلبيس، المتصف بقوة التأثير وطول مدة المفعولية، هو الذي يستحق التوقف عنده، وذلك ما جاءت هذه المقالة لتفعله.
 

البيظان: الهوية الطاردة المطاردة

إن من الحقائق الاجتماعية التي يغفل عنها الكثير ممن يدرسون القضايا الحقوقية للمجموعات: مركزيةَ الهوية والخصوصية الثقافية بالنسبة لوجود المجموعات، وأن وضوح الهوية الثقافية والكينونة المعنوية للجماعات بمثابة “التوازن النفسي” للأفراد، فكما يحتاج الفرد إلى تكوين نظرة إيجابية عن نفسه لكي يجد لوجوده معنى (والإنسان “يبحث عن معنى” كما يقرر فكتور فرانكل) فكذلك تحتاج المجموعات أن تُكوِّن نظرة كهذه عن نفسها وأن تتقدم للآخرين عبرها، وكما تسمى هذه النظرة لدى الأفراد بالشخصية فإنها عند الجماعات والمجموعات تسمى “الهوية”

وأهم ما يستوقفنا في موضوع الهوية الثقافية عند “لمعلمين” هو الحالة الغريبة للهوية البيظانية التي يراد للمعلمين وشرائح أخرى الانطواء تحتها رغبوا أم رفضوا.

فهذه الهوية لا تقبل للمعلمين وغيرهم من شرائح الأتباع في النظام الطبقي القديم أن يكونوا جزء كاملا منها أي بيظانا 100% ولكنها لا تقبل لهم أيضا الانفصال عنها وتكوين هوية خاصة بهم، فأنت حين تخاطب الإنسان العادي واصفا “معلما” او حرطانيا أو “لحميا” أو باختصار غير الزاوي والعربي، بأنه بيظانيا فلن يقبل منك ذلك، ولكن عندما يصف أحد هؤلاء نفسه بأنه غير بيظاني، وخاصة في معرض التميز، فإنه يواجه بتلك المقولة الجاهزة دأبا: “هذا كامل الَّا البيظان” وقد يكون للأمر جانب من الصحة ولكنهم بيظان من درجات: فهناك “بيظان الدرجة الأولى” وبيظان الدرجة الثانية والثالثة والرابعة وربما العاشرة.

إن هوية البيظان تمتاز بأنها “طاردة” لكل من يريد الدخول فيها من طبقات الأتباع، و”مطاردة” لكل من يريد منهم الخروج منها، في تناقض غريب لا يشبهه إلا حرص بعض الدول على إخضاع “أراضي” الأقاليم الانفصالية سعيا وراء مواردها، وإهمال “شعوب” هذه الأقاليم احتقارا لها.

 

أشرار.. “ولو طارت”

تعرف الصورة النمطية بأنها “فكرة مسبقة تلقي صفات سلبية على كل أفراد طبقة أو مجموعة” ولأن هذا التصوير السلبي سيلازم هذه المجموعة ويؤثر على مكانتها وكيانها جماعة وأفرادا فإنه يعد جريمة ضد هذه المجموعة، ومن ثم فهو جريمة ضد الإنسانية، إذ هو قتل معنوي ينطبق على مرتكبه أنه “قتل الناس جميعا”. ولا أظن أن اثنين يختلفان في فظاعة الصورة النمطية التي رسمتها الثقافة الطبقية لشريحة “لمعلمين” ولذلك فلا حاجة بنا لاستعراض جوانب هذه اللوحة القاتمة التي ركبها المخيال المنحرف عن صراط الشرع وسلامة الطبع من أشد الأوصاف استقباحا لدى الناس. لكن ما يهم التوقف عنده هو الآلية التي نجح بها العقل الجمعي لمجتمعنا الطبقي في ترسيخ هذه الصورة النمطية، وأغرب ما في منهجية هذا التسويق هو حالة المكابرة المراوِغة التي يعبر عنها المثل: “لا خير في الحداد ولو كان عالما” فالشائع هو أن مسوقي الصورة النمطية -سعيا وراء شيطنة ضحاياهم- يرفضون رفضا باتا الاعتراف لهم بأي فضيلة، ولكن هذه الطريقة قد تفشل عندما يكتشف المتلقي ما يخالفها لأن الحقائق لا تعدم قلوبا صافية تنساق فيها، ولذلك جاء “منطق أهل لخيام” بابتكار جديد يجمع بين الاعتراف بالحقيقة وإنكارها في نفس الوقت!!

و”أبدع” ما في هذا المثل، الذي يعد من “الأساطير المؤسسة” في التصوير النمطي للمعلمين هو تركيزه على الفضيلة التي اشتهر بها هؤلاء: أي التميز الثقافي والعلمي، فإذا لم يكن “لمعلمين” أخيارا بالعلم، وهم المبرزون في الذكاء باعتراف الجميع، فلن يكونوا أخيارا أبدا.

وكخلاصة: لقد اخترت في هذه العجالة التركيز على بُعد قضية لمعلمين الثقافي، وشرح جانبها الحقوقي المعنوي؛ سواء منه حق هذه الفئة في الاعتبار المعنوي والاعتراف بهويتها الثقافية المتميزة ومكانتها التاريخية، أو محاربة الجريمة الثقافية المرتبكة في حقها بتقديمها في صورة نمطية قاتمة.

ومن المعلوم أن ضمان الحقوق الثقافية ومحاربة الجرائم المعنوية ركنان ركينان في تحقيق الإنصاف والعدل بين الناس يكفلهما الشرع القويم والطبع السليم وتقوم عليهما مبادئ حقوق الإنسان التي تعارفت عليها البشرية.

على أن تركيزنا على البعد الثقافي لا يعني موافقة للطرح الذي يقول إن مظلمة هذه الفئة مقتصرة على الظلم المعنوي وليست لها مظاهر مادية مثل التهميش والإقصاء…إلخ، وإنما هو حديث يركز على أصل المسألة ولا ينفي ما تفرع عنه.

المصدر