” أحياء التأهيل والترحيل” بنواكشوط .. حين يستفحل الظلم ويتحكم الفساد (الحلقة 1)

لم يجد وزير الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي، إسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا، ما يقدمه خلال البرنامج المفتوح الذي بثه التلفزيون الموريتاني بمناسبة رأس العام الجديد؛ غير الحديث عن الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة أمام مبنى رئاسة الجمهورية، مدللا بذلك على “جو الحرية والانفتاح على مستوى قمة هرم السلطة”، وأن الناس أصبحوا “يتظاهرون فقط من أجل التظاهر”!..

لكن اللافت في الأمر أن النسبة الغالبة من الاعتصامات والمظاهرات الشعبية أمام الرئاسة، على مدى السنوات الثلاث المنصرمة، جاءت من سكان الأحياء العشوائية ومناطق الترحيل، احتجاجا على ممارسات القطاع الذي يديره ولد الشيخ سيديا تحديدا.. اعتصموا وتظاهروا ضد ظلم مصالح وزارة الرجل الذي يرى أنهم إنما يمارسون “هواية التظاهر”؛ ولجأوا إلى رئيس الجمهورية لأن من غير المنطقي أن يشكوا إلى من ظلمهم ودمر مساكنهم وهجرهم ومنح أرضهم لغيرهم، على مرأى ومسمع منهم.

إسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا، وزير الإسكان

إسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا، وزير الإسكان

ولقد تظاهر هؤلاء أمام الرئاسة وفي أي مكان يتنقل إليه رئيس الجمهورية، لأنهم فقراء ويعتبرون أن “رئيس الفقراء” أولى بإنصافهم. قبل مداخلة الوزير التلفزيونية بأيام فقط، تحدث مدير وكالة التنمية الحضرية، اعل سالم ولد مناه في مقابلة مع قناة محلية مستقلة، عن اتهامات السكان لهيئته بممارسة الظلم عليهم وترحيلهم من الأحياء التي كانوا فيها إلى أخرى نائية، من أجل منحها لوافدين؛ فقال إن “المهم هو قطعة أرضية مؤهلة” سواء في موقع التأهيل الأصلي أو في حي من أحياء الترحيل! منطق لا يختلف في كثير عن منطق الوزير؛ فالمدير يرى بترحيل سكان الأحياء العشوائية إلى مناطق الترحيل لمنحها (بيعها؟) لآخرين لم يروا تلك الأحياء في حياتهم، إذ المهم أن يجد المرء المرحل من مركز المدينة إلى أطرافها، قطعة أرضية، ولا يعنيه ما تفعله “لادي” بأرضه.. والوزير يرى في الاعتصام ضد هذا النوع وغيره من أشكال الظلم “ترفا” لا يتوفر لشعوب بعض دول الجوار، ولم يتوفر قبل هذا النظام!

ولد عبد العزيز يستمع لسكان الحي الساكن

ولد عبد العزيز يستمع لسكان الحي الساكن

كان من ضمن من تصبب العرق من جباههم وخدودهم وأذقانهم وهم يتلقون سهام مداخلة، محمد ولد عبدي ولد حرمة ، مفتش الدولة السابق؛ أحد أكثر الموريتانيين اطلاعا على أساليب الفساد وخصائص زبانيته ورموزه؛ في ندوة الحزب الحاكم الأخيرة حول “محاربة الفساد”؛ موظفون كبار في قاعات حكومية أوكلت لها مهام توفير ظروف العيش الكريم للمواطنين، وخاصة الفقراء والمهمشين والمحرومين من الشرائح الأكثر هشاشة؛ مثل قطاع الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي، الذي تمثلت أولى مهماته في القضاء على أحياء الصفيح في العاصمة وإنهاء معاناة سكان “الكبات”، من خلال تأهيل مناطقهم ومنحهم قطعا أرضية لائقة في أماكن تواجدهم، وأخرى في أحياء مستصلحة ومؤهلة لمن تفرض عملية شق الشوارع وإقامة البنى الأساسية، الصحية والتعليمية والخدمية، تحويلهم من الأرض التي كانوا يحتلونها بشكل غير مشروع.. لكن مصالح القطاع حادت عن تلك المهمة وانتهجت سبيلا آخر، يعتمد أساليب وممارسات رفع رئيس الجمهورية، محمد ولد عبد العزيز ـ وهو يباشر انطلاق العمل في مشروع تأهيل المناطق العشوائية ـ شعار محاربتها ولواء القطيعة معها نهائيا.

ولد معاوية يباشر إحصاء المستفيدين في الحي الساكن

ولد معاوية يباشر إحصاء المستفيدين في الحي الساكن

بداية موفقة… ولكن

أمام تزايد الضغط السياسي الداخلي والرفض الدولي الحازم الذين واجههما انقلاب 6 أغسطس 2008 ؛ مع تلويح الاتحاد الإفريقي، مدعوما من الأمم المتحدة، بفرض عقوبات انتقائية ضد قادة المجلس العسكري وشخصيات سياسية داعمة لهم؛ اعتمد الجنرال محمد ولد عبد العزيز خيار الاهتمام بالشرائح العريضة من جماهير الشعب، فلم يجد أفضل من سكان الأحياء القصديرية والمناطق العشوائية ممن عانوا التهميش والبؤس على مدى عقود من الزمن. وهكذا دشن  ـ من منطقة “الحي الساكن”، أحد أقدم الأحياء العشوائية في نواكشوط ـ  خطابا جديدا على الموريتانيين، يحمل همومهم ويعبر عن واقعهم ويعد بإنهاء معاناتهم. من هنا أطلق ولد عبد العزيز خطاب “محاربة الفساد” وإنصاف الفقراء والمحرومين، وهو ما مكنه من ضرب عصفورين بحجر واحد.. فمن جهة أعد لنفسه قاعدة شعبية انتخابية من أجل “شرعنة” نظامه المرفوض داخليا والمدان دوليا؛ ومن جهة ثانية ألب سكان الأحياء الفقيرة وغيرهم من المهمشين والفقراء ضد خصومه السياسيين؛ محملا هؤلاء الخصوم مسؤولية الواقع المزري الذي يعيشه سكان “الحي الساكن” وبقية الأحياء العشوائية في نواكشوط وباقي مناطق الداخل الموريتاني.

ولد أحمد، مدير وكالة التنمية الحضرية السابق

ولد أحمد، مدير وكالة التنمية الحضرية السابق

في عصر يوم 12 نوفمبر 2008، أي بعد 96 يوما على وصوله إلى السلطة،  أدى الجنرال محمد ولد عبد العزيز، رئيس المجلس الأعلى للدولة، رئيس الدولة، زيارة غير مسبوقة لمنطقة أحياء الصفيح السكنية المحاذية للعمود الحادي عشر بمقاطعة عرفات حيث أكد مجددا على اهتمام المجلس الأعلى للدولة بوضعية السكن والصحة والتعليم والعمل على توفير الخدمات الضرورية للمواطن الموريتاني.

وندد الجنرال ولد عبد العزيز بالطريقة التي كانت تسير بها أموال الدولة في العهد الماضي؛ واعدا السكان بتغيير ظروفهم المعيشية..

والتزم الجنرال الرئيس بأن يتم تخصيص النصيب الأهم من ميزانية العام 2009  لتحسين ظروف السكن والصحة والتعليم.

وقال ولد عبد العزيز يومها :”لقد قررنا أن توجه وسائل الدولة إلى المجالات التي تمس حياة المواطن خاصة الفئات الأكثر فقرا، وستنعكس هذه الموارد، في أسرع وقت ممكن، على صحة المواطن الموريتاني وعلى التعليم الذي لاغنى عنه ومكافحة الفقر، وتوفير الماء الصالح للشرب وتخفيض أسعاره وضمان نفاذكم إليه بأقل ثمن”.

وفي زيارة الحي الساكن وعد ود عبد العزيز السكان؛ بعد أن سجل لنفسه سبق أول رئيس موريتاني يدخل “الكبة”؛ بمنحهم الأرض التي يتواجدون فيها رسميا بعد إعادة تأهيلها وتوفير كافة الخدمات الأساسية فيها وكان معه في تلك الزيارة “التاريخية” كل من وزير الداخلية حينها محمد ولد معاوية الذي كان موضوع الأرض تابعا لقطاعه، ومدير وكالة التنمية الحضرية إذ ذاك، محمد محمود ولد أحمد، فأمرهما على الفور وأمام السكان بمباشرة إحصاء هؤلاء ومنحهم قطعا أرضية لائقة..

ولد مناه ينظم مبادرة دعم الانقلاب

ولد مناه ينظم مبادرة دعم الانقلاب

شرع الإداريان المخضرمان في رسم خارطة طريق إعادة تأهل الحي الساكن، خاصة وأن الأول ذو تجربة مشهودة في مجال التعامل مع الإحصاءات الإدارية والنزاعات العقارية؛ والثاني ينفذ منذ سنة 2002 تجربة إعادة تأهيل هذا النوع من الأحياء في الميناء حيث منحت قطع أرضية لبعض العائلات في “كبة الميناء” بوثائق ملكية ودعم مالي من مفوضية حقوق الإنسان ومحاربة الفقر لبناء مساكن في تلك القطع الأرضية.

بدأت العملية بنجاح، فسلمت لمن تم إحصاؤهم قطع أرضية لائقة، وشقت الشوارع وحددت المساحات العمومية ومواقع المنشآت الصحية والتعليمية وتولت المهمة فرق فنية من مهندسي وكالة التنمية الحضرية بقيادة واحد من أكثر هؤلاء خبرة وكفاءة في مجال العمران والطبوغرافيا هو سيد محمد ولد سيد أعمر.

ثم انحرف المسار..

وفي خضم التصعيد السياسي بين قادة البلاد العسكريين وحكومتهم وداعميهم من السياسيين من جهة، وبين القوى السياسية المنادية لهم والمنضوية ضمن الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي حققت بعض المكاسب على الصعيد الدولي؛ ظهرت مبادرات شعبية أطلقتها بعض الشخصيات بإيعاز من قادة عسكريين أو بتوجيه من سياسيين داعمين لهم؛ تعلق دعمها لـ”حركة التصحيح” ولقائدها، الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي بدأ يلقب بـ “رئيس الفقراء” لتتم مكافأتهم على هذا الدعم وتلك التعبئة الشعبية، بمناصب هنا وهناك، خاصة وأن أغلب الوظائف كانت بأيدي “رموز من أنظمة الفساد” البائدة أو أفراد مقربين من سياسيين في معسكر رفض الانقلاب..

إعتصام أمام ارئاسة ضد ظلم وزارة الإسكان

إعتصام أمام ارئاسة ضد ظلم وزارة الإسكان

ومن تلك المبادرات واحدة نظمها مسؤول في الحالة المدنية بمقاطعة تيارت، أعل سالم ولد مناه، الذي كانت مكافأته إدارة وكالة التنمية الحضرية التي لم يكن مديرها، محمد محمود ولد أحمد، مرغوبا في النهج الجديد، باعتباره من قدماء الإداريين الموصومين في قاموس “حركة التصحيح” بالفساد فضلا عن كونه أحد المقربين من الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع المرتبط لدى قادة تغيير 3 أغسطس 2005 ونسخته المعدلة في أغسطس 2008، بالفساد ومخلفاته.

ومع تولي ولد مناه عملية تأهيل الأحياء العشوائية، واستحداث وزارة جديدة للإسكان والعمران والاستصلاح الترابي أخذ مسار العملية منحى جديدا شكل بداية انحراف حقيقي وعودة ممارسات تعهد الرئيس الجديد بإحداث قطيعة نهائية معها وبجعل أي متورط فيها هدفا لـ “ثورة” التغيير والإصلاح التي رفع من خلال شعار “موريتانيا الجديدة” ممارسات لم تستنسخ تلك التي أريد لها أن تنتهي إلى غير رجعة، وإنما جاءت بأشكال في أكثر بشاعة وأشد وقعا على الفقراء والمهمشين ليجدوا أنفسهم في جحيم جعل الكثير منهم يحنون إلى ظروفهم البائسة على قسوتها ومأساويتها.

في الحلقة الموالية

نكشف جواب من إستراتيجية “المداخلات”.. وثائق وصور حصرية  بينها عقود بيع ومراسلات بين مسؤولين سامين وموظفين يتبعون لهم بالتصرف خارج إطار المعايير المعلنة رسميا.. أرض للبيع علنا رغم التحريم المدون على وثائق المنح.. ننقل شهادات بعض سماسرة “بورصة” القرعة، وترقيم المساحات غير المخزنة.. شهادات الضحايا ودموع المكتوين ينيران مصادرة الأرض والتهجير.. عائلات هدمت الجرافات مساكنهم التي ذاقوا الأمرين في سبيل بنائها ليتم ترحيلهم بعيدا جدا، وتوطين آخرين في أرضهم التي أبعدوا منها.. قصص درامية عن حياة “المبعدين” إلى مناطق الترحيل و”اللاجئين” الذين تملكهم اليأس من تسوية وضعيتهم، فتحولت حياتهم إلى جحيم لم يجدوا ـ أمام قساوة وطأته ـ غير الاعتصام يوميا، والاحتجاج أمام رئاسة الجمهورية..

نكشف بعض خيوط وملابسات إقالة مدير خلية التأهيل بوكالة التنمية الحضرية، سيدي محمد ولد سيد أعمر، وتوريط مجموعة من الفنيين وحبسهم..

ثم كيف يشرع كبار المسؤولين في قطاع الإسكان والعمران أبواب مكاتبهم أمام رجال الأعمال والتجار وسماسرة الأرض، فيما يمضي العشرات من المتضررين وأصحاب المظالم من الفقراء أياما وأسابيع وأشهرا، يترددون على تلك المكاتب فلا يجدون غير حراس أشداء صارمين يمنعونهم من مجرد الاقتراب من تلك الأبواب؟!

نتطرق لتقرير مفتشية الدولة وموضوع مبالغ أعدت لها فواتير وهمية تم تقديمها للمفتشين أثناء إقامتهم في مكاتب وكالة التنمية الحضرية.. صفقات وعمليات تحايل داخل أروقة الوزارة وبين جدران وكالة التنمية الحضرية وفي بورصات سمسرة الأرض والمعاملات العقارية..  موريوان

” أحياء التأهيل والترحيل” بنواكشوط .. حين يستفحل الظلم ويتحكم الفساد (الحلقة 1).